يمثل لفظ "المُضغة" أحد المصطلحات القرآنية الدقيقة في وصف مراحل خلق الإنسان. وقد أشار القرآن إلى المضغة في موضعين اثنين، كل منهما يحمل دلالة مختلفة في السياق، مما يدل على تطور المرحلة وتعدد معانيها. ويأتي هذا التقرير ليُظهر التوافق المعجز بين النص القرآني والحقائق العلمية الحديثة، خاصة في تخلّق القلب بوصفه أول عضو يُخلق في الجنين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أولاً: دلالة كلمة المضغة لغويًا وشرعيًا:
1. من أشهر المعاني:
قطعة لحم ممضوغة (أي عليها أثر الأسنان).
القلب: كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة... ألا وهي القلب" (متفق عليه).
2. ذكر بعض المفسرين كابن كثير والقرطبي هذا الحديث ضمن سياق تفسير آية المضغة، مما يُشير إلى جواز حمل المعنى على القلب، ولو ضمنيًا.
3. إذا كانت العلقة تصف الجنين كدم جامد، فإن المضغة تصفه كتحول لحمي، إما لظهور شكله الخارجي (الممضوغ)، أو لبدء تخلّق الأعضاء، وعلى رأسها القلب.
ثانيًا: ترتيب خلق الأعضاء من منظور قرآني:
1. آية المؤمنون (فخلقنا العلقة مضغة):
العطف بـ"فـ" يدل على سرعة التحول.
استخدام الفعل الماضي "خلقنا" دون مبالغة يُفهم منه بدء تخلّق عضو رئيسي: وهو القلب.
2. آية الحج (ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة):
العطف بـ"ثم" يدل على التراخي الزمني.
وصف المضغة هنا بأنها "مخلقة وغير مخلقة" يدل على بداية التخليق الخارجي والداخلي.
الفعل "مخلقة" بصيغة اسم المفعول المُشدَّد يُفيد كثرة التخليق.
=> يُفهم من الآيتين أن للمضغة مرحلتين:
مرحلة أولى: ظهور القلب داخل الجنين (المضغة = بداية).
مرحلة ثانية: تخلّق باقي الأعضاء مع استمرار تخليق القلب نفسه (مخلقة/غير مخلقة).
المعطيات العلمية الحديثة - تخلق القلب:
1. القلب هو أول الأعضاء تخلّقًا علميًا:
يبدأ تخلّق القلب من اليوم 18 بعد التلقيح.
ينبض القلب في اليوم 21-23.
يُخلق من الأديم المتوسط (Mesoderm).
2. أهمية جينات النمو المبكر:
MESP1 وMESP2: عوامل حاسمة في توجيه الخلايا لخلق القلب.
Wnt inhibitors: تثبط تخليق الأعضاء الأخرى مؤقتًا، لتسمح للقلب بالتشكل أولًا.
تركيب القلب معقّد:
غرف القلب (الأذينين والبطينين) تُخلق على مراحل.
الحواجز الداخلية، الصمامات، والأعصاب تتكون لاحقًا.
عدد مكونات القلب يتجاوز 70 بنية مختلفة تتشكل تدريجيًا.
4. تزامن تخلّق القلب مع بداية التمايز الجسدي الخارجي:
تظهر القطع الجسدية (Somites) على الجنين، فتُشبه شكله المضغوط.
خلق الإنسان وذريته من المضغة:
قال تعالى: "يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب... ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة" (الحج: 5).
في المضغة، يتم تخليق:
أعضاء الإنسان نفسه.
الغدد التناسلية (التي تُنتج الذرية): تتخلق من الأديم المتوسط وتبدأ بالظهور في الأسبوع الرابع.
=> إذن، من المضغة يتم خلق الإنسان وذريته.
مراحل التخليق ومفهوم المخلقة وغير المخلقة:
1. القول الأول:
الجنين التام يُوصف بـ"مخلقة"، والناقص أو الساقط "غير مخلقة".
يُؤيده أثر ابن مسعود: "مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة، مجّتها الأرحام دمًا".
2. القول الثاني:
المُضغة نفسها فيها أعضاء ظهرت وأخرى لم تظهر.
يُؤيده قول الله: "خلقًا من بعد خلق".
3. القول الراجح:
كلاهما صحيح، ويمكن الجمع بينهما:
من جهة الخلق: المُضغة تتدرج.
من جهة المصير: قد تُقر في الأرحام أو تُسقط.
يوافق هذا ما أثبته العلم:
أن تخليق الأعضاء يتم على مراحل.
أن أكثر السقطات والتشوهات تحدث في مرحلة المضغة، وخاصة مشاكل القلب.
استنتاجات إعجازية من الوصف القرآني للمضغة:
1. المضغة في القرآن تصف:
التحول الخارجي للجنين (مضغ الشكل).
التحول الداخلي بظهور القلب.
2. توافق القرآن مع العلم في جعل القلب أول الأعضاء خلقًا.
3. وصف القرآن للخلق بأنه "مخلقة وغير مخلقة" يطابق مراحل التخلق التفصيلية التي أثبتها العلم.
4. وصف المضغة بأنها أساس خلق الإنسان وذريته يطابق ظهور الغدد التناسلية من الأديم المتوسط.
5. مرحلة المضغة هي أكثر المراحل عرضة للتشوهات والسقوط، وهو ما أشار إليه القرآن.
Comments
Post a Comment